المعرفة النظرية طريقها محفوف بالأشواك، إنه طريق يحتاج إلى الدأب والمثابرة، مع التأمل واستخلاص الفكر، واستنتاج القواعد العامة من المشاهدات والتجارب، ثم تطبيق القاعدة لمعرفة صحتها، وتصحيحها إذا تبين فيها خطأ، مما يحتاج إلى زمن طويل قد لا يقاس بعمر الفرد، بل بعمر أجيال وأجيال.
إن ما بلغته البشرية اليوم من علم ومعرفة إنما هو ثمرة الإنسانية كلها منذ انبثاق فجر الحضارة، إنه تاريخ الفكر البشري، مرَ — ولا يزال — بمرحلتين، مرحلة احتكار ومرحلة إباحة. ففي مرحلة الاحتكار يحتفظ فرد، والأغلب بضعة أفراد قليلون، بأسرار المعرفة التي إما أن يكون قد حصلها بنفسه، أو أخذها عن معلمه،… وهكذا، بحيث تتسلسل المعرفة جيلا بعد جيل. ولذلك كان هذا الضرب من التعليم سرا من الأسرار، وكانت مدارسه سرية، وتعاليمه "باطنية".
أما النوع الآخر فهو التعاليم المباحة المنشورة، ألا ترى إلى أبحاث الذرة والتفجير الذري وصنع القنبلة الذرية والهيدروجينية كيف تحتفظ بها بأسرارها. بل أيسر من هذا ألا ترى كيف تحتفظ الشركات الصناعية " بسر الصنعة "حتى لا يزاحمها في السوق أحد ؟ فلا عجب أن تنشأ في القديم المدارس السرية وتحتكر المعرفة وما يتبعها من نفوذ وسلطان.